سورة العنكبوت - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


{وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)}.
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في تعنتهم وطلبهم آيات- يعنون- ترشدهم إلى أن محمدا رسول الله كما جاء صالح بناقته، قال الله تعالى: {قُلْ} يا محمد: {إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: إنما أمر ذلك إلى الله، فإنه لو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم؛ لأن ذلك سهل عليه، يسير لديه، ولكنه يعلم منكم أنما قصدكم التعنت والامتحان، فلا يجيبكم إلى ذلك، كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59].
وقوله: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: إنما بعثت نذيرًا لكم بَيِّنَ النذارة فَعَليَّ أن أبلغكم رسالة الله و{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272].
ثم قال تعالى مبينا كثرة جهلهم، وسخافة عقلهم، حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمد فيما جاءهم به- وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة عشر سور من مثله، بل عن معارضة سورة منه- فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي: أولم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم، الذي فيه خبر ما قبلهم، ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى، ببيان الصواب مما اختلفوا فيه، وبالحق الواضح البين الجلي، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى} [طه: 133].
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة». أخرجاه من حديث الليث.
وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: إن في هذا القرآن: {لَرَحْمَةً} أي: بيانًا للحق، وإزاحة للباطل و{ذِكْرَى} بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين، {لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
ثم قال تعالى: قل: {كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} أي: هو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب، ويعلم ما أقول لكم من إخباري عنه، بأنه أرسلني، فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ. لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44- 47]، وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به، ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات.
{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أي: لا تخفى عليه خافية.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي: يوم معادهم سيجزيهم على ما فعلوا، ويقابلهم على ما صنعوا، من تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل، كذبوا برسل الله مع قيام الأدلة على صدقهم، وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل، سيجازيهم على ذلك، إنه حكيم عليم.


{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}.
يقول تعالى مخبرا عن جهل المشركين في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم، وبأس الله أن يحل عليهم، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، وقال هاهنا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} أي: لولا ما حَتَّم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه.
ثم قال: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} أي: فجأة، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي: يستعجلون بالعذاب، وهو واقع بهم لا محالة.
قال شعبة، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة قال في قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}، قال: البحر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين. حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد، حدثنا أبي عن مجالد، عن الشعبي؛ أنه سمع ابن عباس يقول: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}: وجهنم هو هذا البحر الأخضر، تنتثر الكواكب فيه، وتُكور فيه الشمس والقمر، ثم يستوقد فيكون هو جهنم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبد الله بن أمية، حدثني محمد بن حُيَي، حدثنا صفوان بن يعلى، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البحر هو جهنم». قالوا: ليعلى، فقال: ألا ترون أن الله يقول: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]، قال: لا والذي نفس يعلى بيده لا أدخلها أبدا حتى أعرض على الله، ولا يصيبني منها قطرة حتى أعرض على الله عز وجل.
هذا تفسير غريب، وحديث غريب جدا، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، كقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]، وقال: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]، وقال: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء: 39]، فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم، وهذا أبلغ في العذاب الحسي.
وقوله: {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، تهديد وتقريع وتوبيخ، وهذا عذاب معنوي على النفوس، كقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48، 49]، وقال {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 13- 16].


{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)}.
هذا أمر من الله لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم؛ ولهذا قال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بَقِيَّةُ بن الوليد، حدثني جُبَيْر بن عمرو القرشي، حدثني أبو سعد الأنصاري، عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبتَ خيرًا فأقم».
ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة، ليأمنوا، على دينهم هناك، فوجدوا هناك خير المنزلين، أصحمة النجاشي ملك الحبشة، رحمه الله، آواهم وأيدهم بنصره، وجعلهم شُيُوما ببلاده. ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة ثم قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي: أينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله، فهو خير لكم، فإن الموت لا بد منه، ولا محيد عنه، ثم إلى الله المرجع والمآب، فَمَنْ كان مطيعا له جازاه أفضل الجزاء، ووافاه أتمَّ الثواب؛ ولهذا قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أي: لنسكننهم منازل عاليةً في الجنة تجري من تحتها الأنهار، على اختلاف أصنافها، من ماء وخمر، وعسل ولبن، يصرفونها ويجرونها حيث شاؤوا، {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها أبدا لا يبغون عنها حولا {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}: نعمت هذه الغرفُ أجرًا على أعمال المؤمنين.
{الَّذِينَ صَبَرُوا} أي: على دينهم، وهاجروا إلى الله، ونابذوا الأعداء، وفارقوا الأهل والأقرباء، ابتغاء وجه الله، ورجاء ما عنده وتصديق موعوده.
قال ابن أبي حاتم، رحمه الله: حدثني أبي، حدثنا صفوان المؤذِنَ، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام الأسود، حدثني أبو معَاتق الأشعري، أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه: أن في الجنة غُرَفا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله لِمَنْ أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وأباح الصيام، وأقام الصلاة والناس نيام.
وقوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، في أحوالهم كلها، في دينهم ودنياهم.
ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب، فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار؛ ولهذا قال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي: لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تؤخر شيئًا لغد، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي: الله يقيض لها رزقها على ضعفها، وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه، حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء والحيتان في الماء، قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي، حدثنا يزيد- يعني ابن هارون- حدثنا الجراح بن مِنْهَال الجزري- هو أبو العطوف- عن الزهري، عن رجل، عن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي: «يا بن عمر، ما لك لا تأكل؟» قال: قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: «لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك قيصر وكسرى فكيف بك يا بن عمر إذا بَقِيتَ في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين؟». قال: فوالله ما برحنا ولا رِمْنا حتى نزلت: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا باتباع الشهوات، فَمَنْ كنز دنياه يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنز دينارًا ولا درهمًا، ولا أخبئ رزقا لغد».
وهذا حديث غريب، وأبو العطوف الجزري ضعيف.
وقد ذكروا أن الغراب إذا فَقسَ عن فراخه البَيض، خرجوا وهم بيضٌ فإذا رآهم أبواهم كذلك، نفرا عنهم أياما حتى يسود الريش، فيظل الفرخ فاتحًا فاه يتفقد أبويه، فيقيض الله له طيرًا صغارًا كالبَرغَش فيغشاه فيتقوت منه تلك الأيام حتى يسود ريشه، والأبوان يتفقدانه كل وقت، فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه، فإذا رأوه قد اسودّ ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق، ولهذا قال الشاعر:
يا رازق النعَّاب في عُشه *** وجَابر العَظْم الكَسِير المهيض
وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سافروا تصحوا وترزقوا».
قال البيهقي أخبرنا إملاء أبو الحسن علي بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد، أخبرنا محمد بن غالب، حدثني محمد بن سِنان، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن رَدّاد- شيخ من أهل المدينة- حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سافروا تصحوا وتغنموا». قال: ورويناه عن ابن عباس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهِيعة، عن دَرّاج، عن عبد الرحمن بن حُجَيرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سافروا تربحوا، وصوموا تصحوا، واغزوا تغنموا».
وقد ورد مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعا، وعن معاذ بن جبل موقوفا. وفي لفظ: «سافروا مع ذوي الجدود والميسرة».
وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي: السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8